سورة التوبة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


المرصد: مفعل من رصد يرصد رقب، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً. وقال عامر بن الطفيل:
ولقد علمت وما إخالك ناسيا *** أن المنية للفتى بالمرصد
الآل الحلف والجؤار، ومنه قول إبي جهل.
لآل علينا واجب لا نضيعه *** متين قواه غير منتكث الحبل
كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار، وله أليل أي أنين يرفع به صوته. وقيل: القرابة. وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر:
أفسد الناس خلوف خلفوا *** قطعوا الآل وأعراق الرحم
وظاهر البيت أنه في العهد. ومن القرابة قول حسان:
لعمرك أن لك من قريش *** كل السقب من رأل النعام
وسميت إلاًّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق. وقيل: من أل البرق لمع. وقال الأزهري: الأليل البريق، يقال: أل يؤل صفا ولمع. وقال القرطبي: مأخوذ من الحدة، ومنه الآلة الحربة. واذن مؤللة محددة، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه: أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها، والعهد يسمى إلاًّ لصفائه، ويجمع في القلة الآل، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمه فأبدلها ألفاً، وأدغمت اللامفي اللام، الذمة؛ العهد. وقال أبو عبيدة: الأمان. وقال الأصمعي: كل ما يجب أن يحفظ ويحمى.
أبى يأبى منع، قال:
أبى الضيم والنعمان يخرق نابه *** عليه فافضى والسيوف معاقله
وقال:
أبى الله إلا عدله ووفاءه *** فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة.
شفاه: أزال سقمه. العشيرة جماعة مجتمعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة. اقترف اكتسب. كسد الشيء كساداً وكسوداً بار ولم يكن له نفاق. الموطن: الموقف والمقام، قال الشاعر:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى *** بإجرامه من قلة النيق منهوي
ومثله الوطن. حنين: وادٍ بين مكة والطائف، وقيل: واد إلى جنب ذي المجاز.
العيلة: الفقر، عال يعيل افتقر. قال:
وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل
الجزية: ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها. أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل.
المضاهاة: المماثلة والمحاكاة، وثقيف تقول: المضاهأة بالهمز، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها، إلا إنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت: توضيت، وقريت، وأخطيت فيمكن. وأما ضهيأ بالهمز مقصوراً فهمزته زائدة كهمزة عرفئ، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث. حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال: جمع بين علامتي تأنيث.
ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال. فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين، لأصالة همزة المضاهأة، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث.
{برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} هذه السورة مدنية كلها، وقيل: إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة، وهذا قول الجمهور. وذكر المفسرون لها اسماً واختلافاً في سبب ابتدائها بغير بسملة، وخلافاً عن الصحابة: أهي والأنفال سورة واحدة، أو سورتان؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك، فأخلينا كتابنا منه، ويطالع ذلك في كتب المفسرين.
ويقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة، ومنه برئت من الدين. وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم. ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، أو على إضمار مبتدأ أي: هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب. قال ابن عطية: أي الزموا، وفيه معنى الاغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة. قال: (فإن قلت): بم تعلقت البراءة، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ (قلت): قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولاً، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم: إعلموا أنّ الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وقال ابن عطية: لما كان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لازماً لجميع أمته حسن أن يقول: عاهدتم. وقال ابن إسحاق وغيره: كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات، فنقض ذلك بهذه الآية، وأحل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي: يذهب فيها مسرحاً آمناً. وظاهر لفظة من المشركين العموم، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم.
وروي أنهم نكثوا إلاّ بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين. وقال مقاتل: المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة. وقيل: هذه الآية في أهل مكة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم صا


{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم} تعدت اتخذ هنا المفعولين، والضمير عائد على اليهود والنصارى. قال حذيفة: لم يعبدوهم ولكنْ أحلوا لهم الحرام فأحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه، وقد جاء هذا مرفوعاً في الترمذي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم. وقيل: كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله، والسجود لا يكون إلا لله، فأطلق عليهم ذلك مجازاً. وقيل: علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم، فهؤلاء اتخذوهم أرباباً حقيقة. ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيراً، وقالوا بالاتحاد. وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر. وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشياً في زمانه، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه: أنتم عبيدي، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الآلهية. وإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهى وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوّف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتاباً في هذه الطائفة، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج، وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان، وابراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بلورقة، وأبا عبد الله بن العربي الطائي، وعمر بن علي بن الفارض، وعبد الحق بن سبعين، وأبا الحسن الششتري من أصحابه، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى، والصفيفير من أصحابه أيضاً، والعفيف التلمساني. وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب. وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره، وكان يتكتم هذا المذهب. وكان بو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطاً له خلطة كثيرة، وكان متهماً بهذا المذهب، وخرج التلمساني من القاهرة هارباً إلى الشام من القتل على الزندقة. وأما ملوك العبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي، وأخرهم سليمان المتلقب بالعاضد. والأحبار علماء اليهود، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع. أخبر عن المجموع، وعاد كل ما يناسبه. أي: اتخذ اليهود أحبارهم، والنصارى رهبانهم. والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم.
{وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا، أي: أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم.
وقيل: في القرآن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: في الكتب الثلاثة. وقيل: في الكتب المنزلة، وعلى لسان جميع الأنبياء. وقال الزمخشري: أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام، أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة. وقيل: الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أرباباً أي: وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون؟ وفي قوله: عما يشركون، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى.
{يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} مثلهم ومثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، ونور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث، فمن حيث سماه نوراً سمى محاولة إفساده إطفاء. وقالت فرقة: النور القرآن وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها. أخبر أنهم يحاولون أمراً جسيماً بسعيٍ ضعيف، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه. ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فهم سامعٍ، وناسب ذكر الإطفاء الأفواه. وقيل: إن الله لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور، ومجيء إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منه محذوف، لأنه فعل موجب، والموجب لا تدخل معه إلا، لا تقول كرهت إلا زيداً. وتقدير المستثنى منه: ويأبى الله كل شيء إلا أنْ يتم قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان: جاز هذا في أبي، لأنه منع وامتناع، فضارعت النفي. وقال الكرماني: معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة. وقال الفراء: دخلت إلا لأنّ في الكلام طرفاً من الجحد. وقال الزمخشري: أجرى أبى مجرى لم يرد. ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا بقوله: ويأبى الله، وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره؟
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} هو محمد صلى الله عليه وسلم، والهدى التوحيد، أو القرآن، أو بيان الفرائض أقوال ثلاثة. ودين الحق: الإسلام {إن الدين عند الله الإسلام} والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على الرسول لأنه المحدّث عنه، والدين هنا جنس أي: ليعليه على أهل الأديان كلهم، فهو على حذف مضاف. فهو صلى الله عليه وسلم غلبت أمته اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناحية الروم والمغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند، وكذلك سائر الأديان. وقيل: المعنى يطلعه على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منه، فالدين هنا شرعه الذي جاء به.
وقال الشافعي: قد أظهر الله رسول صلى الله عليه وسلم على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل. وقيل: الضمير يعود على الدين، فقال أبو هريرة، والباقر، وجابر بن عبد الله: إظهار الدِّين عند نزول عيسى ابن مريم ورجوع الأديان كلها إلى دين الإسلام، كأنها ذهبت هذه الفرقة إلى إظهاره على أتم وجوهه حتى لا يبقى معه دين آخر. وقالت فرقة: ليجعله أعلاها وأظهرها، وإن كان معه غيره كان دونه، وهذا القول لا يحتاج معه إلى نزول عيسى، بل كان هذا في صدر الأمة، وهو كذلك باق إن شاء الله تعالى. وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام وأدّى الخراج. وقيل: مخصوص بجزيرة العرب، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحداً من الكفار. وقيل: مخصوص بقرب الساعة، فإنه إذ ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم. وقيل: ليظهره بالحجة والبيان. وضعف هذا القول لأنّ ذلك كان حاصلاً أول الأمر.
وقيل: نزلت على سبب وهو أنه كان لقريش رحلتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام والعراقين، فلما أسلموا انقطعت الرحلتان لمباينة الدين والدار، فذكروا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. فالمعنى: ليظهره على الدين كله في بلاد الرحلتين، وقد حصل هذا أسلم أهل اليمن وأهل الشام والعراقين. وفي الحديث: «رويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» قال بعض العلماء: ولذلك اتسع مجال الإسلام بالمشرق والمغرب ولم يتسع في الجنوب انتهى. ولا سيما اتساع الإسلام بالمشرق في زماننا، فقلّ ما بقي فيه كافر، بل أسلم معظم الترك التتار والخطا، وكل من كان يناوئ الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجاً والحمد لله. وخص المشركون هنا بالذكر لما كانت كراهة مختصة بظهور دين محمد صلى الله عليه وسلم، وخص الكافرون قبل لأنها كراهة إتمام نور الله في قديم الدهر، وباقيه يعم الكفرة من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها، ووقعت الكراهة والإتمام مراراً كثيرة.


أصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال:
لا درّ درّي إنْ أطعمت ضائعهم *** قرف الجثى وعندي البر مكنوز
وقالوا: رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه. وقال الراجز:
على شديد لحمه كناز *** بات ينزيني على أوفاز
ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة. الكي: معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد. والجبهة: معروفة وهي صفحة أعلى الوجه. والغاز: معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه، وقال ابن فارس: الغار الكهف، والغار نبت طيب الريح، والغار الجماعة، والغاران البطن والفرج. ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه، وناقة ثبطة أي بطيئة السير. وأصل التثبيط التعويق، وهو أن يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه. الزهق: الخروج بصعوبة، قال الزجاج: بالكسر خروج الروح، وقال الكسائي والمبرد: زهقت نفسه وزهقت لغتان، والزهق الهلاك، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر، والزهوق البعد، والزهوق البئر البعيدة المهواة. الملجأ: مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته. جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل. قال:
سبوحاً جموحاً وإحضارها *** كمعمعة السعف الموقد
وقال مهلهل:
وقد جمحت جماحاً في دمائهم *** حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا
وقال آخر:
إذا *** جمحت نساؤكم إليه
اشظ كأنه مسد مغار *** حمز قفر
وقيل: بمعنى جمح. قال رؤبة:
قاربت بين عنقي وجمزي ***
اللمز قال الليث: هو كالغمز في الوجه. وقال الجوهري: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها. وقال الأزهري: أصل اللمز الدفع، لمزتُه دفعته. الغرم: أصله لزوم ما يشق، والغرام العذاب الشاق، وسمي العشق غراماً لكونه شاقاً ولازماً.
{يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} لمّا ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصاً من شأنهم وتحقيراً لهم، وأنّ مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم، فضلاً عن اتخاذهم أرباباً لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل، وصدهم عن سبيل الله. واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين: أكل المال بالباطل، وكنز المال إن ضنوا أنْ ينفقوها في سبيل الله، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع، وغير ذلك مما يوهمونهم به أنّ النفقه فيه من الشرع والتقرب إلى الله، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان كنزه. وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام، كإيهام حماية دينهم، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام واتباع الرسول.
وقيل: الجور في الحكم، ويحتمل أن يكون يصدون متعدياً وهو أبلغ في الذم، ويحتمل أن يكون قاصراً.
وقرأ الجمهور: والذين بالواو، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين. وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله: فبشرهم. وقيل: والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان. وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية. وقيل: كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين، وروي هذا القول عن السدي، والظاهر العموم كما قلناه، فيقرن بين الكانزين من المسلمين، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظاً ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب. وروي العموم عن أبي ذر وغيره. وقرأ ابن مصرّف: الذين بغير واو، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم، ويحتمل الاستئناف والعموم. والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل الله. وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث هو قبل أن تفرض الزكاة، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، فلذلك قال كثير من العلماء: الكنز هو المال الذي لا تؤدّى زكاته وإن كان على وجه الأرض، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز» وعن عمر أنه قال لرجل باع أرضاً أحرز مالك الذي أخذت أحفر له تحت فراش امرأتك فقال: أليس بكنز، فقال: «ما أدّى زكاته فليس بكنز». وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدّي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك. وقال علي: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما زاد عليها فهو كنز وإن أدّيت زكاته. وقال أبو ذر وجماعة معه: ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز. وهذان القولان يقتضيان أنّ الذم في جنس المال، لا في منع الزكاة فقط. وقال عمر بن عبد العزيز: هي منسوخة بقوله: {خذ من أموالهم صدقة} فأتى فرض الزكاة على هذا كله، كأنّ الآية تضمنت: لا تجمعوا مالاً فتعذبوا، فنسخه التقرير الذي في قوله: خذ من أموالهم صدقة، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالاً من جهة أذن له فيها ويؤدّى عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، يقتنون الأموال ويتصرّفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا، والإقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، وما روي عن عليّ كلام في الأفضل.
وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر: يكنزون بضم الياء، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال لأنهما قيم الأموال وأثمانها، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة، وممن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال، وكنزهما يدل على ما سواهما.
والضمير في: ولا ينفقونها، عائد على الذهب، لأن تأنيثه أشهر، أو على الفضة. وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعاً، فروعي المعنى كقوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم، أو على المكنوزات، لدلالة يكنزون. أو على الأموال، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه. ولا ينفقونها، أو على الزكاة أي: ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال. وقال كثير من المفسرين: عاد على أحدهما كقوله: {وإذ رأوا تجارة أو لهواً} وليس مثله، لأن هذا عطف بأو، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو، إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن، وهو خلاف الظاهر.
{يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} يقال: حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى، وتقول: أحميتها أدخلتها لكي تحمي أيضاً فحميت. وقرأ الجمهور: يوم يحمى عليها بالياء، أصله يحمى النار عليها، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور، لم تلحق التاء كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت: رفع إلى الأمير، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلى النار، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء. وقيل: من قرأ بالياء، فالمعنى: يحمى الوقود. ومن قرأ بالتاء فالمعنى: تحمى النار. والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي: يعذبون يوم يحمى. وقرأ أبو حيوة: فيكوى بالياء، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقياً، ووقع الفصل أيضاً ذكر، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير، كما أدغم مناسككم وما سلككم، وخصت هذه المواضع بالكي. قيل: لأنه في الجهة أشنع، وفي الجنب والظهر أوجع. وقيل: لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر، بخلاف اليد والرجل. وقيل: معناه يكوون على الجهات الثلاثة مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم. وقيل: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم. وقال الزمخشري: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم. لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ذهب أهل الدثور بالأجور» وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوا ظهورهم. وأضمر القول في هذا ما كنزتم أي: يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم، أي: هذا الكي نتيجة ما كنزتم، أو ثمرة ما كنزتم. ومعنى لأنفسكم: لتنتفع به أنفسكم وتلتذ، فصار عذاباً لكم، وهذا القول توبيخ لهم. فذوقوا ما كنتم أي: وبال المال الذي كنتم تكنزون. ويجوز أن تكون ما مصدرية أي: وبال كونكم كانزين. وقرئ يكنزون بضم النون. وفي حديث أبي ذر: «بشر الكانزين برصد يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم» وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: «الوعيد الشديد لمانع الزكاة».
{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منهآ أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها، فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليها وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد، ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه جنادة بن عوف، وعليه قام الإسلام. وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً أي: أخِّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، فيغيرون فيه ويعيشون. ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدّة الأشهر الأربعة، ويسمون ذلك الصفر المحرم، ويسمون ربيعاً الأول صفراً، وربيعاً الآخر ربيعاً الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم الموضع لهم، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا.
قال مجاهد: ثم كانوا يحجون في كل عام شهرين ولاء، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر أنواعاً من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب، ذكر أيضاً نوعاً منه وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى، لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإذا غيَّروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله. والشهور: جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة، بخلاف قوله: {الحج أشهر معلومات} فجاء بلفظ جمع القلة، والمعنى: شهور السنة القمرية، لأنهم كانوا يؤرخون بالسنة القمرية لا شمسية، توارثوه عن اسماعيل وابراهيم. ومعنى عند الله: أي، في حكمه وتقديره كما تقول: هذا عند أبي حنيفة. وقيل: التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر. وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص: بإسكان العين مع إثبات الألف، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة، كما روي: التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا. وقرأ طلحة: بإسكان الشين، وانتصب شهراً على التمييز المؤكد كقولك: عندي من الرجال عشرون رجلاً. ومعنى في كتاب الله قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقيل: في إيجاب الله. وقيل: في حكمه. وقيل: في القرآن، لأن السنة المعتبرة في هذه الشريعة هي السنة القمرية، وهذا الحكم في القرآن. قال تعالى: {والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وقال: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} قال ابن عطية: أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه، وليس بمعنى قضائه وتقديره، لأن تلك هي قبل خلق السماوات والأرض انتهى. وعند الله متعلق بعدة. وقال الحوفي: في كتاب الله متعلق بعدة، يوم خلق السماوات والأرض متعلق أيضاً بعدّة. وقال أبو علي: لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر شهراً، ولأنه لا يجوز انتهى. وهو كلام صحيح. وقال أبو البقاء: عدة مصدر مثل العدد، وفي كتاب الله صفة لاثنا عشر، ويوم معمول لكتاب على أن يكون مصدراً لا جثة، ويجوز أن يكون جثة، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى. وقيل: انتصب يوم بفعل محذوف أي: كتب ذلك يوم خلق السماوات، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله: {إن الله عنده علم الساعة} جمع هنا بينهما، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر.
وأربعة حرم سميت حرماً لتحريم القتال فيها، أو لتعظيم انتهاك المحارم فيها. وتسكين الراء لغة. وذكر ابن قتيبة عن بعضهم أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها أن يسيحوا، والصحيح: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وأولها عند كثير من العلماء رجب، فيكون من سنتين. وقال قوم: أولها المحرم، فيكون من سنة واحدة. ذلك الدين القيم أي: القضاء المستقيم، قاله ابن عباس. وقيل: العدد الصحيح. وقيل: الشرع القويم، إذ هو دين ابراهيم. فلا تظلموا فيهن أنفسكم، الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهراً، قاله ابن عباس: والمعنى: لا تجعلوا حلالاً حراماً، ولا حراماً حلالاً كفعل النسيء. ويؤيده كون الظلم منهياً عنه في كل وقت لا يختص بالأربع الحرم. وقال قتادة والفراء: هو عائد على الأربعة الحرم، نهى عن المظالم فيها تشريفاً لها وتعظيماً بالتخصيص بالذكر، وإن كانت المظالم منهياً عنها في كل زمان. وقال الزمخشري: فلا تظلموا فيهن أي: في الأشهر الحرم، أي: تجعلوا حرامها حلالاً. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وإن كان ذلك محرماً في سائر الشهور انتهى. ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن، ولم يجئ بلفظ فيها كما جاء منها أربعة حرم، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول: الجذوع انكسرت، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول: الأجذاع انكسرن، هذا هو الصحيح. وقد يعكس قليلاً فتقول: الجذوع انكسرن، والاجذاع انكسرت، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال، أو بالبداءة بالقتال، أو بترك المحارم لعددكم أقوال. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول، ومعناه جميعاً. ولا يثنى، ولا يجمع، ولا تدخله أل، ولا يتصرف فيها بغير الحال. وتقدم بسط الكلام فيها في قوله: {ادخلوا في السلم كافة} فأغنى عن إعادته. والمعية بالنصر والتأييد، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها.
{إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين}: يقال: نسأه وأنسأه إذا أخَّره، حكاه الكسائي. قال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ، وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة انتهى. وقيل: النسيء مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكير من أنكر، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه الزيادة انتهى. فإذا قلت: أنسأ الله؛ الله أجله بمعنى أخَّر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفاً للزيادة، بل قد يكون منفرداً عنها في بعض المواضع.
وإذا كان النسيء مصدراً كان الإخبار عنه بمصدر واضحاً، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة أي: ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
وقرأ الجمهور: النسيء مهموز على وزن فعيل. وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني: النسيّ بتشديد الياء من غير همز، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء، وأدغم الياء فيها، كما فعلوا في نبئ وخطيئة فقالوا: نبي وخطية بالإبدال والإدغام. وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري.
وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل: النسء بإسكان السين. والأشهب: النسي بالياء من غير همز مثل الندى، وقرأ مجاهد: النسوءعلى وزن فعول بفتح الفاء، وهو التأخير. ورويت هذه عن طلحة والسلمي. وقول أبي وائل: إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف. وقول الشاعر:
أنسنا الناسئين على معدّ *** شهور الحل نجعلها حراما
وقال آخر:
نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها *** من قبلكم والعز لم يتحول
وأخبر أنّ النسيء زيادة في الكفر أي: جاءت مع كفرهم بالله، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفراً. قال تعالى: {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} كما أنّ المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيماناً. قال تعالى: {فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} وأعاد الضمير في به على النسيء، لا على لفظ زيادة. وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: يضل مبنياً للمفعول، وهو مناسب لقوله: زين، وباقي السبعة مبنياً للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب: يضل أي الله، أي: يضل به الذين كفروا اتباعهم. ورويت هذه القراءة عن: الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء. وقرأ أبو رجاء: يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام، أضلَّ بفتح الضاد منقولاً، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن: نُضل بالنون المضمومة وكسر الضاد، أي: نضل نحن. ومعنى تحريمهم عاماً وتحليلهم عاماً: لا يرادان ذلك، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام. وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفراً بدلاً من المحرم، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة، وإنَّ هذه كانت حال القوم.
وتقدم لنا أنّ الذي انتدب أولاً للنسيء القلمس. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة.
وعن ابن عباس: إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ، وهو أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة. والمواطأة: الموافقة، أي ليوافقوا العدة التي حرم الله وهي الأربعة ولا يخالفونها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين. والواجبان هما العدد الذي هو أربعة في أشخاص أشهر معلومة وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم كما تقدم. ويقال: تواطؤا على كذا إذا اجتمعوا عليه، كان كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. ومنه الإيطاء في الشعر، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد، وهو عيب إنْ تقارب. واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله: ويحرمونه، وذلك على طريق الأعمال. ومَنن قال: إنه متعلق بيحلونه ويحرمونه معاً، فإنه يريد من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب. قال ابن عطية: ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد، فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها، بمثابة أن يفطر رمضان، ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر انتهى. وقرأ الأعمش وأبو جعفر: ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف، فكنت لاستثقال الضمة عليها، وذهبت لالتقاء الساكنين، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا. وجاء عن الزهري: ليواطيوا بتشديد الياء، هكذا الترجمة عنه. قال صاحب اللوامح: فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهه انتهى. فيحلوا ما حرم الله أي بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله تعالى من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها. وقرأ الجمهور: زين لهم سوء أعمالهم مبنياً للمفعول. والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم. وقرأ زيد بن علي: زيِّن لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم. قال الزمخشري: خذلهم الله تعالى فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة. والله لا يهدي أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. وقال أبو علي: لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب. وقال الأصم: لا يحكم لهم بالهداية. وقيل: لا يفعل بهم خيراً، والعرب تسمي كل خير هدى، وكل شر ضلالة انتهى. وهذا إخبار عمن سبق في علمه أنهم لا يهتدون.
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}: لما أمر الله رسوله بغزاة تبوك، وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار، عظم ذلك على الناس وأحبوا المقام، نزلت عتاباً على من تخلف عن هذه الغزوة، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، غزا فيها الروم في عشرين ألفاً من راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون.
وخص الثلاثة بالعتاب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة حسبما يأتي إن شاء الله تعالى. ولما شرح معاتب الكفار رغب في مقابلتهم. وما لكم استفهام معناه الإنكار والتقريع، وبني قيل للمفعول، والقائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره. إذ أخلد إلى الهوينا والدعة: من أخلد وخالف أمره صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الأعمش: تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم، وهو ماض بمعنى المضارع، وهو في موضع الحال، وهو عامل في إذ أي: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا. وقال أبو البقاء: الماضي هنا بمعنى المضارع أي: ما لكم تتثاقلون، وموضعه نصب. أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على مذهب الخليل انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه يلزم منه حذف أنْ، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل، وحذف أنْ في نحو هذا قليل جداً أو ضرورة. وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا، لأن معمول المصدر الموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبراً لما. وقرئ: اثاقلتم على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ، ولا يمكن أن يعمل في إذ ما بعد حرف الاستفهام. فقال الزمخشري: يعمل فيه ما دل عليه، أو ما في ما لكم من معنى الفعل، كأنه قال: ما تصنعون إذا قيل لكم، كما تعمله في الحال إذا قلت: ما لك قائماً. والأظهر أن يكون التقدير: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا، وحذف لدلالة اثاقلتم عليه. ومعنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر. وقيل ملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله: الزجاج. ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى. وفي قوله: أرضيتم، نوع من الإنكار والتعجب أي: أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي. ومِن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي: بدل الآخرة كقوله: {لجعلنا منكم ملائكة} أي بدلاً، ومنه قول الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة *** مبردة باتت على طهيان
أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى تبرد. وأصحابنا لا يثبتون أن تكون هنُّ للبدل.
ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير: فما متاع الحياة الدنيا محسوباً في نعيم الآخرة. وقال الحوفي: في الآخر متعلق بقليل، وقليل خبر الابتداء. وصلح أن يعمل في الظرف مقدماً، لأنّ رائحة الفعل تعمل في الظرف. ولو قلت: ما زيد عمراً إلا يضرب، لم يجز.
{إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير}: هذا سخط على المتثاقلين عظيم، حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً. وقيل: يعذبكم بإمساك المطر عنكم. وروي عن ابن عباس أنه قال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة فقعدت، فأمسك الله عنها المطر وعذبها بها به. والمستبدل الموعود بهم، قال: جماعة أهل اليمن. وقال ابن جبير: أبناء فارس. وقال ابن عباس: هم التابعون، والظاهر مستغن عن التخصيص. وقال الأصم: معناه أنه تعالى يخرج رسوله من بين أظهرهم إلى المدينة. قال القاضي: وهذا ضعيف، لأنّ اللفظ لا دلالة فيه على أنه ينتقل من المدينة إلى غيرها، ولا يمتنع أن يظهر في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حال كونه هناك. والضمير في: ولا تضروه شيئاً، عائد على الله تعالى أي: ولا تضروا دينه شيئاً. وقيل: على الرسول، لأنه تعالى قد عصمه ووعده بالنصر، ووعده كائن لا محالة. ولما رتب على انتفاء نفرهم التعذيب والاستبدال وانتفاء الضرر، أخبر تعالى أنه على كل شيء تتعلق إرادته به قدير من التعذيب والتغيير وغير ذلك.
{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}: ألا تنصروه فيه انتفاء النصر بأيّ طريق كان من نفر أو غيره. وجواب الشرط محذوف تفسيره: فسينصره، ويدل عليه فقد نصره الله أي: ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يكون قوله تعالى: فقد نصره الله جواباً للشرط؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: فسينصره، وذكر معنى ما قدمناه. والثاني: أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى. وهذا لا يظهر منه جواب الشرط، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق، والماضي لا يترتب على المستقبل، فالذي يظهر الوجه الأول. ومعنى إخراج الذين كفروا إياه: فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. ونسب الإخراج إليهم مجازاً، كما نسب في قوله: {التي أخرجتك} وقصة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مذكورة في السير.
وانتصب ثاني اثنين على الحال أي: أحد اثنين وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه.
وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام: «من يخرج معي؟» قال: أبو بكر. وقال الليث: ما صحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أبي بكر. وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: ألا تنصروه. قال ابن عطية: بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط، وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام. وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصرة دين الله، إذ بين فيها أنّ الله ينصره كما نصره، إذ كان في الغار وليس معه فيه أحد سوى أبي بكر. وقرأت فرقة: ثاني اثنين بسكون ياء ثاني. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف. والغار: نقب في أعلى ثور، وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة، مكث فيه ثلاثاً. هذ هما: بدل. وإذ يقول: بدل ثان. وقال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله تعالى، وليس ذلك لسائر الصاحبة. وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه، وأخبره بقوله: إن الله معنا، يعني: بالمعونة والنصر. وقال أبو بكر: يا رسول الله إنْ قتلتُ فأنا رجل واحد، وإنْ قتلْتَ هلكت الأمة وذهب دين الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» وقال أبو بكر رضي الله عنه:
قال النبي ولم يجزع يوقرني *** ونحن في سدف من ظلمة الغار
لا تخش شيئاً فإن الله ثالثنا *** وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوارده *** كيد الشياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طراً بما صنعوا *** وجاعل المنتهى منهم إلى النار
{فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} قال ابن عباس: السكينة الرحمة. وقال قتادة في آخرين: الوقار. وقال ابن قتيبة: الطمأنينة. وهذه الأقوال متقاربة. والضمير في عليه عائد على صاحبه، قاله حبيب بن أبي ثابت، أو على الرسول قاله الجمهور، أو عليهما. وأفرده لتلازمهما، ويؤيده أنّ في مصحف حفصة: فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما. والجنود: الملائكة يوم بدر، والأحزاب، وحنين. وقيل: ذلك الوقت يلقون البشارة في قلبه، ويصرفون وجوه الكفار عنه. والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبي بكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابت الجأش، ولذلك قال: لا تحزن إن الله معنا. وأنّ الضمير في وأيده عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه} يعني الرسول، وتسبحوه: يعني الله تعالى. وقال ابن عطية: والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله: {فيه سكينة من ربكم} ويحتمل أن يكون قوله: فأنزل الله سكينته إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح، لا أن يكون هذا يختص بقصة الغار. وكلمة الذين كفروا هي الشرك، وهي مقهورة. وكلمة الله: هي التوحيد، وهي ظاهرة. هذا قول الأكثرين. وعن ابن عباس: كلمة الكافرين ما قرروا بينهم من الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله: أنه ناصره. وقيل: كلمة الله لا إله إلا الله، وكلمة الكفار قولهم في الحرب: يا لبني فلان، ويا لفلان. وقيل: كلمة الله قوله تعالى: {لأغلبن أنا ورسلي} وكلمة الذين كفروا قولهم في الحرب: أعل هبل، يعنون صنمهم الأكبر. وقرأ مجاهد وأيده والجمهور وأيده بتشديد الياء. وقرئ: وكلمة الله بالنصب أي: وجعل. وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار. وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ: وجعل كلمته هي العلياء، وناسب الوصف بالعزة الدالة على القهر والغلبة، والحكمة الدالة على ما يصنع مع أنبيائه وأوليائه، ومن عاداهم من إعزاز دينه وإخماد الكفر.
{انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} لما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وضرب له من الأمثال ما ضرب، أتبعه بهذا الأمر الجزم. والمعنى: انفروا على الوصف الذي يحف عليكم فيه الجهاد، أو على الوصف الذي يثقل. والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة، ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا. وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعليّ أنْ أنفر؟ قال: نعم، حتى نزلت: {ليس على الأعمى حرج} وذكر المفسرون من معاني الخفة والثقل أشياء لا على وجه التخصيص بعضها دون بعض، وإنما يحمل ذلك على التمثيل لا على الحصر. قال الحسن وعكرمة ومجاهد: شباباً وشيوخاً. وقال أبو صالح: أغنياء وفقراء في اليسر والعسر. وقال الأوزاعي: ركباناً ومشاة. وقيل: عكسه. وقال زيد بن أسلم: عزباناً ومتزوجين. وقال جويبر: أصحاء ومرضى. وقال جماعة: خفافاً من السلاح أي مقلين فيه، وثقالاً أي مستكثرين منه. وقال الحكم بن عيينة وزيد بن علي: خفافاً من الإشغال وثقالاً بها. وقال ابن عباس: خفافاً من العيال، وثقالاً بهم. وحكى التبريزي: خفافاً من الأتباع والحاشية، ثقالاً بهم. وقال علي بن عيسى: هو من خفة اليقين وثقله عند الكراهة. وحكى الماوردي: خفافاً إلى الطاعة، وثقالاً عن المخالفة. وحكى صاحب الفتيان: خفافاً إلى المبارزة، وثقالاً في المصابرة.
وحكى أيضاً: خفافاً بالمسارعة والمبادرة، وثقالاً بعد التروي والتفكر. وقال ابن زيد: وقال ابن زيد: ذوي صنعة وهو الثقيل، وغير ذوي صنعة وهو الخفيف. وحكى النقاش: شجعاناً وجبناً. وقيل: مهازيل وسماتاً. وقيل: سباقاً إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش، والثقال الجيش بأسره. وقال ابن عباس وقتادة: النشيط والكسلان. والجمهور على أن الأمر موقوف على فرض الكفاية، ولم يقصد به فرض الأعيان. وقال الحسن وعكرمة: هو فرض على المؤمنين عنى به فرض الأعيان في تلك المدة، ثم نسخ بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} وانتصب خفافاً وثقالاً على الحال. وذكر بأموالكم وأنفسكم إذ ذلك وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله، فحض على كمال الأوصاف وقدِّمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل الله. والخيرية هي في الدنيا بغلبة العدو، ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله. وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر ومات فيه، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى.
{وكان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون}: أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال، وسفراً قاصداً وسطاً مقارباً. وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا، واعتذر منهم فريق لأصحابه، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة. وليس قوله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم} خطاباً للمنافقين خاصة، بل هو عام. واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم. لاتبعوك: لبادروا إليه، لا لوجه الله، ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة أي: المسافة الطويلة في غزو الرّوم. والشّقة بالضم من الثياب، والشقة أيضاً السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر قاله: الجوهري. وقال الزجاج: الشقة الغاية التي تقصد. وقال ابن عيسى: الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها. وقال ابن فارس: الشقة المسير إلى أرض بعيدة، واشتقاقها منه الشق، أو من المشقة. وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين، وافقه الأعرج في بعدت. وقال أبو حاتم: إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى. وحكى الكسائي: شقة وشقة. وسيحلفون: أي المنافقون، وهذا إخبار بغيب. قال الزمخشري في قوله: وسيحلفون بالله، ما نصه بالله متعلق بسيحلفون، أو هو من كلامهم. والقول مراد في الوجهين أي: سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا. وقوله: لخرجنا سدَّ مسدَّ جواب القسم. ولو جميعاً والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات.
ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة، واستطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا انتهى. وما ذهب إليه من أنّ قوله: لخرجنا، سدَّ مسدَّ جواب القسم. ولو جميعاً ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان: أحدهما: إن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور. والآخران لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك. إنْ لخرجنا يسد مسدهما، فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك. ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو، ودل عليه جواب القسم جعل، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعاً.
وقرأ الأعمش وزيد بن علي: لوُ استطعنا بضم الواو، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن: بفتحها كما جاء: {اشتروا الضلالة} بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب، أي: يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى. وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلاً من سيحلفون، أو حالاً بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يخلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالاً من قوله: لخرجنا أي، لخرجنا معكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً؟ يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكام انتهى. أما كون يهلكون بدلاً من سيحلفون فبعيد، لأن الإهلاك ليس مرادفاً للحلف، ولا هو نوع من الحلف، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه. وأما كونه حالاً من قوله: لخرجنا، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم. فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب: نهلكُ أنفسنا أي: مهلكي أنفسنا. وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم، لو قلت: حلف زيد ليفعلن وأنا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز، وكذا عكسه نحو: حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائماً لم يجز. وأما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبراً عنهم بقوله: لو استطعنا لخرجنا معكم، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكاية.
والحال من جملة كلامهم المحكي، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالداً، تريد اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هند: خرج زيد أضرب خالداً، تريد خرج زيد ضارباً خالداً، لم يجز.
{عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}: قال ابن عطية: هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق. واستأذنوا دون اعتذار منهم: عبد الله بن أبيّ، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، ومن اتبعهم. فقال بعضهم: ائذن لي ولا تفتني. وقال بعضهم: ائذن لنا في الإقامة، فأذن لهم استبقاءً منه عليهم، وأخذا بالأسهل من الأمور، وتوكلا على الله. قال مجاهد: قال بعضهم: نستأذنه، فإن أذن في القعود قعدنا، وإن لم يأذن فعدنا، فنزلت الآية في ذلك انتهى. وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه: ذهب ناس إلى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة» لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل. وقد قال الله تعالى: {تُرجي من تشاء منهن وتؤوي إِليك من تشاء} لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي. واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه صلى الله عليه وسلم، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة، فعفا الله عنك عنده افتتاح كلام أعلمه الله به، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن، وليس هو عفواً عن ذنب، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» وما وجبتا قط ومعناه: ترك أن يلزمكم ذلك انتهى. ووافقه عليه قوم فقالوا: ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون: أصلح الله الأمير كان كذا وكذا، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر، ومعناه الدعاء انتهى.
ولم ولهم متعلقان بأذنت، لكنه اختلف مدلول اللامين، إذ لام لم للتعليل، ولام لهم للتبليغ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما. ومتعلق الإذن غير مذكور، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي: لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له. وقيل: متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو، لما ترتب على خروجهم من المفاسد، لأنهم كانوا عيناً للكفار على المسلمين.
ويدل عليه قوله: {وفيكم سماعون لهم} وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل: لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة؟ وبيّن أنّ خروجهم معه ليس مصلحة بقوله: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً} وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي: ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر، هكذا قدره الحوفي. وقال أبو البقاء: حتى يتبين متعلق بمحذوف دل عليه الكلام تقديره: هلاّ أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين. وقوله: لم أذنت لهم يدل على المحذوف. ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التبيين، وهذا لا يعاتب عليه انتهى. وكلام الزمخشري في تفسير قوله: عفا الله عنك لم أذنت لهم، مما يجب اطراحه، فضلاً عن أن يذكر فيردّ عليه. وقوله: الذين صدقوا أي: في استئذانك. وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك. وتعلم الكاذبين: تريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن. وقال الطبري: حتى نعلم الصادقين في أنّ لهم عذراً، ونعلم الكاذبين في أنْ الأعذار لهم. وقال قتادة: نزلت بعد هذه الآية آية النور، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذنْ لمن شئت منهم. وهذا غلط، لأنّ النور ن

1 | 2 | 3